الحياء... يبني الشخصية أو يهدمها؟
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أولى الإسلام عناية بالغة بتزكية الفرد والجماعة، ودعا إلى الاهتمام بالأخلاق حتى جاء على لسان الرسول الأعظم (ص):
قد يهتم الدارسون للإسلام بالجانب العقائدي والفقهي فقط، وقد يظهر ذلك في تصنيف المجموعة كلها إلى حقلي: أصول الدين، وفروع الدين، مما يشير إلى تناسي القسم المتعلق بالأخلاق، ولكن الإنصاف أن أهمية هذا القسم لا تقل عن القسمين الآخرين.
بناء على ذلك فالتعاليم الإسلامية ينبغي تقسيمها إلى ثلاثة حقول:
1- العقائد.
2- الفقه.
3- الأخلاق.
وما تفتقر إليه المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر ليست الجهود المركزة لبيان العقائد الصحيحة، فمئات الكتب والأبحاث والدراسات، وبلغات عديدة، تملأ الفراغ في هذا الجانب. وكذلك قلما نجد قصوراً في إثراء الفكر الفقهي بالجهود والتحقيقات والدراسات القيمة، ولكن القصور في معالجة الجانب الأخلاقي لا يزال واضحاً وملموساً بجلاء.
من هذا المنطلق، نحاول معالجة بعض الموضوعات الأخلاقية التي نرجو أن تعيننا على بلوغ الهدف الأسمى من الرسالة، والسمو بالنفوس إلى عالم الفضائل.
هل الحياء محبذ أم مذموم؟
(الحياء)، هل هو نقطة قوة في الشخصية أو نقطة ضعف؟ هل يبني الشخصية أو يهدمها؟ وأخيراً هل ينبغي أن نقوي هذه الخصلة أو نعمل على التخلص منها؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال، لابد أن نعرف ما هو الحياء.
إنه شعور بالانفعال والتأثر النفسي نتيجة الخوف من اللوم والتقريع من الآخرين، وقد يشترك مع الخجل في كثير من المظاهر والآثار.
هذه الحالة النفسية التي تقترن بالإحجام والكف عن القيام بشيء، لها درجات خفيفة وشديدة، ولكن يمكن أن نقسمها بصورة عامة إلى ما هو محبذ وما هو مذموم، وبهذه المناسبة نستأنس بحديث عن رسول الله (ص):
ويوضح الإمام الصادق (ع) ذلك في حديثه عن آبائه عن رسول الله (ص):
إذن قد يقترن الإحجام والخوف من التقريع بما يبني الشخصية ويحصنها من الانزلاق والتلوث فيكون نقطة قوة، وحياء عقل، وقد يقترن بالخجل المفرط وعدم الجرأة على التعبير عن الحق فيكون عاملاً لهدم الشخصية ويكون بالتالي نقطة ضعف، وحياء جهل.
ولعل قصة موسى (ع) لمّا ورد ماء مدين، ووجد عليه امة من الناس يسقون خير مثال على النوع الأول، فقد قال سبحانه وتعالى:
إنه يعبر عن مشية الفتاة المؤمنة التي تحمل رسالة إلى موسى من أبيها، مقترنة بكل معاني الوقار والحياء والعفة.
أما مثال النوع الثاني فهو التلميذ الذي يدرس بجد واجتهاد ويستوعب المادة الدراسية بإتقان، ولكنه يصاب في الامتحان أو المقابلة بالخجل المفرط والحياء الشديد، وهما من علامات ضعف الشخصية، وتكون النتيجة الفشل والرسوب، وهذه الظاهرة تلحظ بوضوح في كثير من الأطفال، حيث لا يملكون الجرأة على الاتصال بالكبار، ويتخوفون من المشاركة في المجالس العامة، وكأنهم يعانون من الشعور بالحقارة والنقص إلى درجة أنهم يمتنعون أحياناً حتى من الذهاب إلى بيوت أقاربهم والتحدث معهم.
وقد تصاحبهم هذه الحالة إلى مراحل البلوغ والشيخوخة فتصبح عقدة مستعصية، ولعل انعدام الجرأة الأدبية والخجل من التحدث إلى الجماهير، وما يصاحب ذلك من التلعثم وعيّ اللسان مظهر بارز من مظاهر هذه الحالة المذمومة من الحياء.
الحياء والإيمان
وإذا كان الجانب الإيجابي محبذاً فهو يعتبر قرين الإيمان والخير في كثير من النصوص الإسلامية، والتي منها:
1- عن الإمام أمير المؤمنين (ع):
2- عن الإمام الباقر (ع):
3- عن الإمام أمير المؤمنين (ع):
آثار الحياء على سلوك المؤمن
وما دام المؤمن مكلفاً بتزكية نفسه، ومسؤولاً عن جعل سلوكه منسجماً مع المنهج الذي يريده الله تعالى كي ينال رضاه، ويكمل سيره التكاملي، فلننظر ما هي الآثار المترتبة على الحياء.
1- الصلة بين الحياء والعفة:
هناك نصوص دينية عديدة تربط بين الحياء والعفة. ولا تخفى علينا أهمية العفة في سلوك المسلم، حتى أن الإمام أمير المؤمنين (ع) يرفع بالعفيف إلى مستوى يستحق به صحبة الملائكة حيث يقول:
(ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعف، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة) (7).
ويقول علماء الأخلاق: العفة على ضروب: عفة اليد، وعفة اللسان، وعفة الفرج وهي العظمى. وما ذلك إلا لانعكاس العفة على جميع أعضاء الإنسان وجوارحه، فتصده عن الانحراف.
ومن الطريف ما يروى بهذا الصدد: أن أبا سهل الساعدي دخل على جميل بثينة في مرض موته فقال له جميل:
- يا أبا سهل، رجل يلقى الله ولم يسفك دماً حراماً، ولم يشرب خمراً، ولم يأت بفاحشة، أترجو له؟
فقال أبو سهل: أي والله، فمن هو؟
قال جميل: إني لأرجو أن أكون ذلك.
يقول أبو سهل فذكرت له بثينة.
فقال: إني لفي آخر يوم من أيام الدنيا وبأول يوم من أيام الآخرة، لا نالتني شفاعة محمد إن كنت حدثت نفسي بريبة معها أو مع غيرها قط.
ولعل من أجمل ما قيل في هذا المعنى قول الشاعر:
ولا إلى محرم مددت يــــــدي * ولا مشت بي لريبة قـــــدم
هذه العفة هي التي تردع المؤمن من الانزلاق والتلوث وتعطي للحياء أثراً إيجابياً واضحاً في سلوكه.
أما النصوص التي تربط بين الحياء والعفة فإليك بعضاً منها:
1- الحياء يصد عن الفعل القبيح.
2- سبب العفة الحياء.
3- أصل المروءة الحياء.
4- على قدر الحياء تكون العفة.
وكلها من قصار كلمات الإمام أمير المؤمنين (ع) التي تطفح بالحكمة والرشاد.
2- مراعاة الجو السليم للمجتمع:
وهو ما نعبر عنه بالاستحياء من الناس في جانبه الإيجابي، حيث يجعل الاستحياء إطاراً يحصن المجتمع من الاستهتار.
ولا بأس بأن نسترشد بحديث رسول الله (ص) حيث يقول:
وكذلك:
كيف ننمي الحياء في أطفالنا
وهنا تظهر أهمية دور الوالدين في تنمية هذه الملكة عند الأطفال. على الوالدين أن يعودا طفلهما على الحياء منذ الصغر، وأن يفهماه قبح الاستهتار واستياء الناس من المذنب، وبهذا يستطيعان أن يقفا أمام انحرافه وخروجه عن القانون.
إن الحياء المذموم (أي الخجل المفرط) من الصفات الذميمة، وأساس ذلك هو ضعف الشخصية وعقدة الحقارة، وقد عبر الرسول الأعظم (ص) عن ذلك بحياء الحمق والجهل.
هذه العقدة قد تنشأ من سوء التربية، وقد تستند إلى العيوب الطبيعية أو النقائص الاجتماعية. والخلاصة أن هناك عوامل وعللاً كثيرة يمكن أن تؤدي إلى نشوء عقدة الحقارة فتبعث الإنسان على الخجل المفرط والحياء الذي لا مبرر له، إن جميع المظاهر الحقيقية أو المجازية للتحقير الذي يحس به الطفل في اتصاله بالبيئة التي يعيش فيها يمكن أن تؤدي إلى نشوء هذه العقدة النفسية.
يقول الدكتور آلاندي في كتابه الطفل المجهول: إن قلة ذات اليد واشتمال الملابس الرثة ووجود العاهات العضوية والمرض أو الشعور بالنقص في الأسرة... كل ذلك من الأمور التي تلعب دوراً كبيراً في نشوء هذه العقدة وعلى هذا فمن الضروري أن تعار أهمية بالغة إلى جميع هذه العوامل حتى لا تنشأ الشخصية المنحرفة عند الأطفال، لأن تغيير هذا الوضع الروحي في الفترات التالية يفتقر إلى كفاح عنيف وجهد متواصل.
إن الجانب الكبير من الأمراض النفسية والشعور بالحقارة ناشئ من سوء التربية في دور الطفولة، فقد يترك السلوك الأهوج للوالدين في نفوس الأطفال أثراً سيئا إلى درجة أنه يصيبهم بالضعة والدونية ويظلون يتجرعون النتائج الوخيمة لذلك مدى العمر، وأفضل الأساليب المقترحة للوقاية من هذا المرض هو التربية الصحيحة التي تعتمد على التفرقة بين الحياء الذي يبني الشخصية والذي يهدمها، والعمل على تقوية الجانب الإيجابي وجعله منسجماً مع أصول التربية الإسلامية.