الحج
مع إطلالة موسم الحج من كل عام تتعلق قلوب الملايين من المسلمين بأطراف قوافل الحجيج شوقا إلى الديار المقدسة، لتلبي بذلك نداء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث أمر من قبل الله سبحانه بأن يرفع الأذان بالحج وذلك في قوله تعالى:
هذا الأمر الإلهي الذي دوى عبر التاريخ، وتعاقب الأنبياء على سماعه والخضوع له، على فترات ضيق وسعة، إلى أن انحسرت الأقدام وقل الوراد وسادت فترة شح في القاصدين وذلك في الفترة بين نبي الله عيسى (ع) والرسول الأعظم محمد (ص)، حيث أن الوراد وإن كانوا كثرة من حيث العدد إلا أنهم ما كانوا لله قاصدين بل أكثرهم كان عابد صنم أو ممن يشرك مع الله سواه، واستمرت هذه الفترة ما شاء الله الى أن بعث الله نبيه محمدا (ص) بالدين الخالد والشرعة الخاتمة
وهكذا كان هذا النداء إمضاء لما شرع لنبي الله إبراهيم (ع)، وبادرت بذلك قوافل الحجيج إلى تلبية النداء الذي استمر صداه إلى يومنا هذا، ولنبي الله إبراهيم قصة مع هذه البقعة المباركة فقد هبط فيها بصحبة زوجته هاجر وابنه إسماعيل، وكانت في ذلك الوقت لا تزيد عن واد جديب وأرض قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، وفي هذا المكان وبقرب تلك الصخور الصماء يرفع نبي الله إبراهيم يديه بالضراعة الى الله ويقول:
وهكذا يصبح بيت الله الحرام رمزا لالتفاف كل الجهود الخيرة حول نقطة واحدة، هي (التوحيد)، ويتمحور هذا المعنى حول رمز واحد ألا وهو (الكعبة المشرفة)، وتنهال بعد ذلك حشود الحجاج رافعة أصواتها بمفتاح تلك الشعائر والمناسك، رافعة أصواتها بالتلبية لله وحده، تلبية محفوفة بالإخلاص له سبحانه
يتميز الحج كعبادة بأمرين: الأول كونه من العبادات الاجتماعية، التي يكون السمو والانتقال إلى الله فيها جماعيا يضم كل المسلمين على اختلاف أجناسهم ومشاربهم، والأمر الثاني هو اشتراك جميع العناصر في أدائه: الجسم والروح، المال والجهد، النفس والمشاعر، بخلاف العبادات الأخرى التي منها ما يعد ماليا، ومنها ما يعد بدنيا وهكذا.
إن الحج الخالص يعتبر فرصة للتخلص من أدران الذنوب، ورجس الخطايا، بل أن النية بتركها قد تكون شرطا معنويا في اكتمال الحج بمعناه الكامل، وإلا فان قول الإمام الصادق (ع):
وحيث كان جواب شبلي بالنفي، قال (ع): إذن ما دخلت الميقات ولا لبيت، وماتنظفت ولا أحرمت ولا عقدت الحج، وما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صليت فيه ركعتين)
وبعد النزول إلى ذلك المحل الطاهر وأداء مناسكه، تسهم كل هذه المناسك في تخليص المسلم ولو من الجزء الأكبر من الخطايا والذنوب والتفكير فيما لا يرضي الله، وهناك خطوة أخرى تعطي الفرصة مرة ثانية للقضاء على النوازع السيئة في النفس وبطريقة تجمع بين المادة والروح، وبين الشعائر الظاهرية ومقاصد الشريعة ألا وهي عملية رمي الجمرات، حيث يقوم الحاج برمي الجمرات الثلاث: الشيطان الأصغر، والأوسط، والأكبر، وهو بذلك يعلن براءته من الشيطان وإغوائه وأحابيله.
الجمرة الأولى: هي الشهوة، وتعد الشيطان الأصغر.
الجمرة الوسطى: هي الثروة، وتعد الشيطان الأوسط.
الجمرة الكبرى: هي السلطة، وتعد الشيطان الأكبر.
وهذه الجمرات متدرجة في الخطورة على الحركة التكاملية للإنسان، ابتداءا من أسهلها مقاومة وانتهاءا بأعنفها وأشدها.
وهكذا تعطي مناسك الحج دروسا ومواعظ تجعل الحاج بعد خروجه من هذه الدورة التربوية الإلهية مرتفع المعنويات، مقبلا على استئناف عمله بكل جد ونشاط مخلصا في تحركاته لله سبحانه، وقد بين الإمام الصادق (ع) أصناف الحجاج عند انتهائهم من هذه الرحلة المباركة، فقال:
في الختام نتمنى للجميع التوفيق لأداء هذه الشعيرة العظمى، والرجوع من هذه المدرسة وقد فهموا مقاصدها واستفادوا من دروسها على الصعيدين الدنيوي والأخروي.