الاستحالة ومجالات تطبيقها
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
في مجال الحديث عن الأمور التي تعتبر نجسة حسب مواصفات الشريعة، والمواد المطهرة لها تحدث فقهاؤنا الأوائل عن عدد محدود من المطهرات يتلخص في الماء، والشمس، والنار، واتسعوا ليعتبروا انقلاب الخمر خلاً من موارد التطهير.
وعلى سبيل المثال فإن العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن المطهر المتوفى 726هـ) يحصر المطهرات في ستة أنواع هي: الماء المطلق، والشمس، والنار، والأرض، والإسلام، وانقلاب الخمر خلاً سواء كان بعلاج أو غيره، ثم يقول:
(ولو وقع الخنزير وشبهه في ملاحة فاستحال ملحاً، أو العذرة في البئر فاستحالت حمأة لم يطهر، لقيام النجاسة بالأجزاء لا بالصفات، والأجزاء باقية، ولأن النجاسة لم تحصل بالاستحالة فلا تزول بها، ولو استحالت الأعيان النجسة تراباً فالأقرب الطهارة)(1).
فنراه يجزم بعدم الطهارة وإن حصلت الاستحالة في مثل الخنزير وصيرورته ملحاً، إلا أنه يتردد في الطهارة في (القواعد) حيث يقول:
(وفي تطهر الكلب والخنزير إذا وقعا في المملحة فصارا ملحاً، والعذرة إذا امتزجت بالتراب وتقادم عهدها حتى استحالت تراباً نظر) ويعلق المحقق الثاني علي بن الحسين الكركي العاملي (المتوفى940هـ) على ذلك بقوله: (ولا ريب أن الذي كان من أفراد نوع الكلب قبل الاستحالة بحيث يصدق عليه اسمه قد زال عنه ما كان، وصار في الفرض من أفراد الملح بحيث لا يصدق عليه ذلك الاسم، بل يعد إطلاقه غلطاً) (2).
إلى أن جاء دور العلامة السيد محمد كاظم اليزدي حيث طرح المسألة في كتابه الشهير (العروة الوثقى) بالنحو الآتي:
(الاستحالة وهي تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى صورة أخرى، فإنها تطهر النجس بل والمتنجس.. وأما تبدل الأوصاف وتفرق الأجزاء فلا اعتبار بهما.. ومع الشك في الاستحالة لا يحكم بالطهارة).
وإذا حللنا هذه العبارة إلى المسائل التي عالجتها فهي تتضمن ما يأتي:
2- الفرق بينها وبين تبدل الأوصاف.
3- الموقف الشرعي عند الشك في حصول الاستحالة.
وبالرجوع إلى (العروة الوثقى) واستقراء الأمثلة التي يعتبرها السيد اليزدي (قده) من مصاديق الاستحالة، والتفرقة بينها وبين الأمثلة التي لا تعتبر من الاستحالة، فتحت نافذة جديدة للإستنباط الفقهي لتميز الحكم الشرعي في موارد لم تكن معروفة لدى الأقدمين من فقهائنا.
فهل نعتبر تبدل عظام الحيوان إلى (الجيلاتين) من الاستحالة التي بها يطهر المتنجس، بل وحتى الأعيان النجسة؟!
وهل يكون تحول الشحوم النجسة إلى (الصابون) من موارد الاستحالة؟!
إن التطور الصناعي الذي نشاهده في العصر الحديث وما يواكبه من حاجات ومسائل جديدة لم تكن معروفة لدى فقهائنا الأقدمين ينتظر الحلول الشرعية التي يقدمها المجتهدون في كل عصر حتى تفي الشريعة الإسلامية الخالدة بمتطلبات كل عصر.
من هنا بدأ الإمام الخوئي محاولته الجادة في استنباط المسائل المتعلقة بالاستحالة ودورها في تطهير الاعيان النجسة.
الدليل على مطهرية الاستحالة
قبل كل شيء يبحث سيدنا الاستاذ (قده) عن الدليل على اعتبار الاستحالة من المطهرات فيقول:
(ثم إن الدليل على مطهرية الاستحالة هو أنه بالاستحالة يتحقق موضوع جديد غير الموضوع المحكوم بنجاسته لأنه انعدم وزال، والمستحال إليه موضوع آخر، فلا بد من ملاحظة أن ذلك الموضوع المستحال إليه هل ثبتت طهارته بدليل اجتهادي (3) أو لم تثبت طهارته كذلك؟! فعلى الأول لا مناص من الحكم بطهارته بعين ذلك الدليل كما إذا استحال شاة أو إنساناً أو جماداً أو غير ذلك من الموضوعات الثابتة طهارتها بالدليل.
كما أنه على الثاني (4) يحكم بطهارة المستحال إليه أيضاً لقاعدة الطهارة، وذلك لفرض أنه مشكوك الحكم ولم تثبت نجاستها ولا طهارتها بدليل، ونجاسته قبل الاستحالة (5) قد ارتفعت بارتفاع موضوعها، ولا معنى لبقاء الحكم عند انعدام موضوعه) (6).
من هنا نتبين منهج الإمام الخوئي (قده) في الاستنباط، فهو يعتمد على قاعدة أصولية متفق على مفادها (إن الحكم يدور مدار موضوعه)، فإذا انعدم الموضوع انعدم الحكم (7)، ولا معنى لبقاء الحكم عند انعدام موضوعه.
ولنبسط الموضوع قليلاً لنقول: إن القصر في الصلاة حكم يدور مدار السفر، فاذا انقطع السفر وتحققت الإقامة الشرعية انقلب الحكم إلى التمام، فلا معنى لبقاء القصر، وكذلك الضمان في العارية موضوع اليد العدوانية، فإذا انتفى العدوان وكانت اليد أمينة، انتفى الضمان بتبعه.
وإذا قارنا هذا البحث بما نعهده ركناً أساسياً في (الاستصحاب) وهو اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة من حيث الموضوع وجدناه منسجماً تمام الانسجام، فمع تبدل الموضوع لا مجال لاستصحاب الحالة السابقة لذلك يخرج سيدنا الاستاذ (قده) بالنتيجة الآتية:
(ومما ذكرناه اتضح أن عد الاستحالة من المطهرات لا يخلو عن تسامح ظاهر، حيث أن الاستحالة موجبة لانعدام موضوع النجس أو المتنجس عرفاً، لا أنها موجبة لطهارته مع بقاء الموضوع بحاله) (8).
لقد ذكر الفقهاء الاستحالة في ضمن (المطهرات)، ويعني ذلك أنها تزيل النجاسة، في حين أنها عبارة عن انعدام موضوع النجس أو المتنجس، وطبيعي أن يستتبع ذلك انعدام الحكم وهو النجاسة، لكن حيث لم يجدوا باباً آخر يدرجون تحته هذه المسألة، الحقوها بالمطهرات.
ولنا وقفة مع من يحدد انعدام الموضوع، هل هو العرف أو العقل والنظرة الفلسفية؟!
يجيب سيدنا الاستاذ على ذلك بأن الأحكام الشرعية غير مبتنية على الأنظار العقلية والفلسفية، وإنما المرجع في ذلك هو العرف، فربما لا تفرق النظرة العقلية أو الأبحاث المتعلقة بالعلوم الطبيعية بين الخمر والخل (9)، ولكن الأحكام الشرعية تبتني على ما يعد تبدلاً عند العرف، ومن الواضح أن الخل غير الخمر في كل الأعراف، وسنناقش هذا الموضوع عند تعرضنا للأمثلة التي اتفق الفقهاء على كونها من الاستحالة.
هل المدار على الاسم أو الحقيقة؟
لم يتعب سيدنا الاستاذ (قده) نفسه في مناقشة أن الأحكام الشرعية تتعلق بالمسميات أو بالحقائق، كما فعل صاحب (الجواهر) حيث قال: (.. بل قد يرعى ظهورها في الأعم من تغير الحقيقة ومن تغير الصورة التي يذهب بذهابها مسمى الاسم دون حقيقته، وإن استبعده بل منعه بعض علمائنا، ضرورة تخلفه في كثير من الموارد.. لكن قد يمنع ذلك عليه ويرعى ظهور تعلق الأحكام بمسميات الأسماء دون حقائقها لأنه معنى اللفظ دونهما، فالأصل حينئذ يقتضي انتفاء الحكم بانتفائه) (10). بل ركز على انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه كما رأينا.
تعريف الاستحالة
عرّف السيد محمد كاظم اليزدي في (العروة الوثقى) الاستحالة بأنها: (تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى صورة أخرى) (11) ونفى أن يكون تبدل الأوصاف وتفرق الأجزاء من مصاديق الاستحالة.
وحلل سيدنا الاستاذ (قده) ذلك بأن التبدل على نوعين:
أ- التبدل في الأوصاف الشخصية أو الصنفية مع بقاء الحقيقة النوعية على حالها.
ب- التبدل في الصورة النوعية، كما إذا تبدلت الصورة بصورة نوعية أخرى مغايرة للأولى عرفاً.
فاعتبر الثاني من الاستحالة، بينما لا يعتبر النوع الأول مندرجاً تحت عنوان الاستحالة.
وقبل الدخول في تفاصيل الفرق بين النوعين، لابد أن نوضح المقصود بالصورة النوعية والأوصاف الشخصية أو الصنفية. ففي المنطق تقسم المفاهيم الكلية الذاتية إلى: الجنس، والنوع، والفصل. والجنس أوسع دائرة من النوع، إذ تندرج تحت الجنس الواحد أنواع عديدة، بينما الشخص يكون جزئياً، والأوصاف الشخصية أو الصنفية - وهي التي تعود إلى مجموعة من أفراد النوع الواحد- لا ترقى إلى مرحلة المفاهيم الكلية.
مثال ذلك: الحيوان جنس يندرج تحته الإنسان والفرس والأسد والفيل، فالنوع هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالعدد فقط في جواب ما هو.
وأما الصنف فهو أخص من النوع ويشترك مع باقي أصناف النوع في تمام حقيقتها ويمتاز عنها بأمر عارض خارج عن الحقيقة، والتصنيف كالتنويع إلا أن التنويع للجنس باعتبار الفصول الداخلة في حقيقة الأقسام، والتصنيف للنوع باعتبار الخواص الخارجة عن حقيقة الأقسام كتصنيف الإنسان إلى شرقي وغربي، وإلى عالم وجاهل، وإلى ذكر وأنثى (12).
ونعود الآن للأمثلة التي يذكرها السيد اليزدي في العروة:
أ- أمثلة تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى صورة أخرى:
1- العذرة تصير تراباً.
2- الخشبة المتنجسة إذا صارت رمادا.
3- البول إذا صار بخاراً.
4- الماء المتنجس إذا صار بخاراً.
5- الكلب يتحول ملحاً.
6- النطفة تصير حيواناً.
7- الطعام النجس يصبح جزءاً من الحيوان.
ويؤيد سيدنا الاستاذ هذه الأمثلة ويعتبرها من تبدل الصورة النوعية التي بها تحصل الاستحالة، حيث يزول الموضوع السابق وينعدم، ويتحقق موضوع جديد غير الموضوع المحكوم بالنجاسة، فالعرف يرى في العذرة التي امتزجت بالتراب وتقادم عهدها حتى استحالت تراباً، أنها تراب، والتراب محكوم بالطهارة بالأدلة الاجتهادية، فلا وجه لتردد العلامة الحلي في الطهارة.
كما أن العرف يشهد بأن الكلب الذي وقع في أرض ملحية وتحول إلى ملح انعدم موضوعه وتحقق موضوع جديد هو الملح، والملح طاهر بالأدلة الاجتهادية.
وكذلك النطفة حين تصير حيواناً، والطعام النجس يأكله الحيوان فيصبح جزءاً من بدنه (13).
ولا فرق في هذا النوع من التبدل بين أن تكون الصورتان متغايرتين بالنظر العقلي أيضاً كما في تبدل الجماد أو النبات إلى الحيوان، أو تبدل الحيوان إلى جماد (مثاله الكلب الواقع في المملحة إذا صار ملحاً) أو الميتة أكلها حيوان فصارت نطفة، ثم تحولت النطفة تدريجياً لتصبح حيواناً، وبين ما إذا لم تكن بينهما مغايرة عقلاً وذلك كالخمر إذا تبدلت إلى الخل.
ب- أمثلة تبدل الأوصاف الشخصية أو الصنفية مع بقاء الحقيقة النوعية على حالها:
1- الحنطة إذا صارت طحيناً، أو عجيناً، أو خبزاً.
2- الحليب إذا صار جبناً.
3- صيرورة الخشب فحماً.
4- صيرورة الطين خزفاً، أو آجراً (14).
5- تبدل القطن ثوباً، أو الثوب قطناً.
في هذه الأمثلة ونحوها لا تتحقق الاستحالة، فإن التبدل وقع في الأوصاف مع بقاء القطن على حقيقته، فعندما يحول القطن إلى الثوب يكون قد تغير من القوة والتماسك إلى الضعف والتراخي، وكذلك تبدل الحنطة دقيقاً أو خبزاً، لأن حقيقة الحنطة باقية بحالها في كلتا الصورتين وإنما التبدل في صفاتها من القوة والتماسك، وعدم كونها مطبوخة إلى غير ذلك من الصفات التي يجمعها (التبدل في الأوصاف الشخصية أو الصنفية).
والخلاصة: إن النجاسة في الاعيان النجسة إنما تترتب على الصور النوعية وعناوينها الخاصة، فالدم بعنوان أنه دم نجس، والعذرة بعنوان أنها عذرة محكومة بالنجاسة، ومع تبدل الصورة النوعية وزوال العناوين الخاصة ترتفع نجاستها لانعدام موضوعها.
وأخيراً يؤكد سيدنا الاستاذ (قده) على أنه: (لم تترتب النجاسة في الاعيان النجسة على مادة مشتركة بين المستحال منه والمستحال إليه، أو على عنوان الجسم (15) مثلا ليدعى بقاء نجاستها بعد استحالتها وتبدلها بصورة نوعية أخرى) (16).
استحالة المتنجس
كنا نعالج لحد الآن مسألة استحالة الاعيان النجسة، فماذا عن المتنجسات؟
نقل الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) المتوفى سنة 1281هـ كلام من فرق بين استحالة نجس العين والمتنجس، بالحكم بعدم كونها مطهرة في المتنجسات.
وعلى حد تعبير الإمام الخوئي (قده) فإن الشيخ الأنصاري قد أطال الكلام في الجواب عن ذلك، إلا أنه لخص الجواب، وعلق عليه بأن ما أفاده الشيخ لا يفي بدفع الشبهة، ولكن الصحيح في الجواب أن يقال: إن بالتبدل في العناوين المنوعة يرتفع الشيء السابق ويزول، ويتحقق شيء آخر جديد، فلا مجال معه للتمسك بالإطلاق أو الاستصحاب، فالاستحالة في المتنجسات كالاستحالة في الاعيان النجسة موجبة لانعدام الموضوع السابق وإيجاد موضوع جديد.
وأيد ذلك بسيرة المتدينين من عدم اجتنابهم عن الحيوانات الطاهرة إذا أكلت أو شربت شيئاً متنجساً، فالدجاجة التي أكلت طعاماً قذراً لا يجتنب عن بيضها، كما لا يجتنبون عن روث الحيوان المحلل أو بوله أو لحمه إذا أكل أو شرب شيئاً متنجساً، وليس هذا إلا من جهة طهارة المتنجس بالاستحالة.
أما الاستدلال على طهارة المتنجسات بالاستحالة بصحيحة الحسن بن محبوب قال: (سألت أبا الحسن عليه السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه: إن الماء والنار قد طهراه) (17) فقابل للمناقشة من وجوه (18).
الشك في الاستحالة
أطلق السيد الطباطبائي اليزدي القول بعدم الطهارة عند الشك في الاستحالة، لكن سيدنا الاستاذ (قده) يستخدم مهارته الخاصة في الاستنباط، فيفرع البحث إلى مقامين:
1- إذا شك في الاستحالة في الاعيان النجسة.
2- إذا شك في الاستحالة في المتنجسات.
ويعالج كلاً منهما بضوابط وقواعد أصولية دقيقة، ففيما يتعلق بالمقام الأول يقول ان الشبهة قد تكون:
أ- موضوعية: حيث يكون الشك في الاستحالة ناشئاً عن اشتباه الأمور الخارجية.
ب- مفهومية: حيث يكون الشك في الاستحالة ناشئاً عن الشك في سعة المفهوم وضيقه.
مثال الأول: إذا وقع كلب في الأرض الملحية وشككنا بعد يوم في أنه هل استحال ملحاً أم لم يستحل.
ومثال الثاني: إذا صارت العذرة فحماً وشككنا بذلك في استحالتها، وذلك للشك في أن لفظة العذرة هل وضعت على العذرة غير المحروقة، فإذا أحرقت خرجت عن كونها عذرة، أو أنها وضعت على الأعم من المحروقة وغيرها، وعليه فالشك في سعة المفهوم وضيقه.
ففي الشبهة الموضوعية: وقد مثل لها سيدنا الاستاذ (قده) بالكلب إذا وقع في الأرض الملحية، وأردنا أن نعرف حكم ذلك بعد يوم، أي شككنا في أنه هل استحال ملحاً أم لم تحصل الاستحالة بعد، هنا الموضوع باق على حاله والتغير أو التبدل المطلوب ليس متحققاً، لذلك يمكن الإشارة إلى هذا الموضوع الخارجي ويقال: إنه كان كلباً ونشك في تحوله فالأصل عدم التحول.
وإذا أردنا أن نصوغ ذلك صياغة أصولية قلنا: إن الشك تعلق بعين ما تعلق به اليقين، والقضية المتيقنة والمشكوك فيها متحدتان، وعليه لا مانع من التمسك باستصحاب كون العين النجسة باقية بحالها وعدم صيرورتها ملحاً.
مثال آخر: عظم الحيوان غير المذكى، أو عظم الخنزير وضع في جهاز وصار مسحوقاً فنشك هل استحال إلى موضوع آخر أو صورة نوعية أخرى حتى نحكم بطهارته أم لا؟! وبالتأمل نجد أن الموضوع باق وملاك الاستحالة (وهو التبدل في الصورة النوعية) لم يتحقق، ومع فرض حصول شك كهذا -أي شك من قبيل الشبهة الموضوعية- لا مانع من جريان الاستصحاب لوجود أركانه الأساسية، ومنها اتحاد القضية المشكوك فيها والمتيقنة.
أما في الشبهة المفهومية: وهي الناشئة من الشك في سعة المفهوم وضيقه، أي انا لا ندري هل أن مفهوم (الاستحالة) من السعة بحيث يشمل هذه الموارد المشكوك فيها، أو أنه ضيق ينحصر في الأمثلة التي ساقها بعض الفقهاء مثلاً، فيختار فيها سيدنا الاستاذ (قده) عدم جريان الاستصحاب لا في ذات الموضوع، ولا في الموضوع بوصف كونه موضوعاً، ولا في حكمه، أي لا مجال لاستصحاب النجاسة التي كانت تتصف بها العين سابقاً.
وقد مثل سماحته (قده) لذلك بالعذرة إذا احترقت وصارت فحماً، ونضيف لذلك مثالاً من وضعنا المعاصر وهو (الجيلاتين)، حيث أنه يؤخذ من عظام الحيوانات ولعلها غير مذكاة، أو نقطع بعدم تذكيتها، بل تعتمد بعض المصانع على استخراجه من عظام الخنزير، ومن الناحية العملية يؤخذ العظم ويسحق، ويغلى ثم يستخلص ويخضع لعمليات كيماوية عديدة بحيث لا يصدق على المادة الجديدة أنها (عظم)، ولا يجد العرف أدنى شك أو تردد في الملاك الذي ذكره فقهاؤنا وهو (التبدل في الصورة النوعية) حيث أن هذا المعلب في الأكياس ليس عظماً لحيوان أبداً.
وهنا إذا شك أحد في حصول الاستحالة بالشبهة المفهومية، لشكه في سعة مفهوم الاستحالة وضيقها، بمعنى أنه يشك في أن مفهوم الاستحالة هل هو من السعة بحيث ينطبق على هذا التبدل أم لا، فلا مجال لإجراء استصحاب النجاسة التي كانت ثابتة للعظم سابقاً باعتباره من الميتة أو الخنزير.
ونفس الشيء ينطبق على قائمة المواد الحافظة التي تسجل على علب بعض المأكولات في بلاد الغرب مثل (E430-E472-E471) وغيرها، حيث يعمد بعض السذج -وبدافع الغيرة على الدين وعلى المسلمين من أن يتناولوا محرماً- إلى طبع قائمة تحتوي هذه العلامات مع الإشارة إلى أن أصلها متخذ من شحوم الحيوانات، أو أنه من الحوامض الدسمة (Fatty Acid) وبما أنه يجب الاجتناب عن كل الشحوم الحيوانية فلا يجوز تناول هذه المواد والأطعمة.
وقد غفل هؤلاء عن أن الحوامض تنقسم في الكيمياء إلى نوعين: دسمة وغير دسمة، وهذا مصطلح علمي لا صلة له باحتوائه على شحم الحيوانات غير المذكاة، وحتى لو كان الأصل مأخوذاً من حيوان غير مذكى فإن الاستحالة قد طهرتها، والموضوع قد تبدل بصورة كاملة إلى شيء آخر، فلا مجال لاستصحاب النجاسة لما عرفناه من ضرورة اتحاد القضية المشكوك فيها والقضية المتيقنة في الموضوع.
بعد بيان هذه الأمثلة نعود لنقتبس من كلام سيدنا الاستاذ (قده) ما يوضح السبب في عدم جريان الاستصحاب بأنواعه الثلاثة (19):
أ- أما عدم جريان الاستصحاب في ذات الموضوع الخارجي، أي هذا الشيء الذي أمامنا ونتعامل معه مباشرة (كالجيلاتين في مثالنا) فلأنه وان تعلق به اليقين بمعنى أنا كنا على يقين بأنه في السابق كان عظماً وكان نجساً، إلا أنه ليس متعلقاً للشك، للعلم بزوال وصف من أوصافه واتصافه بوصف جديد، وبما أن الاستصحاب يتقوم باليقين السابق والشك اللاحق، ولا شك في الموضوع هنا فلا يجري الاستصحاب.
ب- وأما عدم جريانه في الموضوع بوصف كونه موضوعاً، فلأنه عبارة أخرى عن النوع الآتي وهو استصحاب الحكم، فإن الموضوع بوصف كونه موضوعاً لا معنى له سوى ترتب الحكم عليه.
ج- وأما عدم جريانه في نفس الحكم فلأننا وإن كنا عالمين بترتب النجاسة على العذرة سابقاً قبل إحراقها، وعلى العظم قبل طحنه وإجراء التغييرات الكيماوية والصناعية عليه، ونشك في بقاء تلك النجاسة، إلا أن القضية المتيقنة والمشكوك فيها يعتبر إحراز اتحادهما، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال لإحراز الاتحاد.
فإذا أريد التمسك بالاستصحاب هنا كان من موارد الشبهة المصداقية، وعليه لا يمكن التمسك بإطلاق أدلته أو عمومه، مضافاً إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية وهو ما بينه سيدنا الاستاذ (قده) في بحث الاستصحاب من أبحاثه الأصولية العليا.
كلمة أخيرة
ولكي نلخص رأي الإمام الخوئي (قده) في الشبهات المفهومية التي ترجع إلى مقام التسمية والموضوع له، نقول: إن الشك في سعة المفهوم وضيقه يعود لدى التحليل إلى أن كلمة (العظم) مثلاً هل وضعت لمطلق العظم حتى لو جرت عليه تبدلات وتغييرات أخرجته عن الصورة الأولى أو أنها موضوعة للعظم الذي لم يجر عليه أي تغيير، وحيث لا يوجد في المقام أصل يعين السعة أو الضيق، يرجع في موارد الشك في الاستحالة إلى (قاعدة الطهارة) ومفادها: كل شيء لك طاهر حتى تعلم بنجاسته، وبها يحكم بطهارة الموضوع المشكوك استحالته (20).